نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مع الشروق .. حين تسود المصالح على حساب القيم, اليوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024 11:12 مساءً
نشر في الشروق يوم 27 - 11 - 2024
يمثل موقف الولايات المتحدة الأخير بشأن قرارات المحكمة الجنائية الدولية تحديًا صارخًا للجهود العالمية الرامية إلى تعزيز العدالة الدولية، هذا التحدي تجلى بوضوح في ما تداولته وسائل إعلام صهيونية عن استعداد واشنطن لاستقبال وزير الدفاع الصهيوني المُقال يوآف غالانت رسميًا في واشنطن، رغم إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات جلب بحقه وبحق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية.
إن استقبال غالانت في هذا التوقيت يُعتبر رسالة سياسية واضحة من واشنطن، فهي لا تكتفي برفض قرار المحكمة بل تسعى إلى تقويض أي محاولة دولية لمحاسبة المسؤولين الصهاينة عن الانتهاكات المرتكبة ضد الفلسطينيين، التي تشمل اتهامات بجرائم حرب وتهجير قسري وتجويع وتقتيل المدنيين العزّل، و هذا الدعم الأمريكي يرسخ ازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي، ويعمّق الفجوة بين المبادئ التي تدّعي الولايات المتحدة الدفاع عنها وممارساتها على أرض الواقع.
فالمحكمة الجنائية الدولية تُعتبر إحدى ركائز النظام الدولي القائم على العدالة والمساءلة من الناحية النظرية، ومع ذلك، فإن القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة تسعى إلى تسييس هذه المؤسسة، ما يهدد مصداقيتها وقدرتها على فرض القانون، فالولايات المتحدة ليست فقط دولة غير موقعة على نظام روما الأساسي، الذي يحدد اختصاص المحكمة، بل إنها تعمل أيضًا على عرقلة جهود المحكمة لمساءلة حلفائها.
و في هذا السياق، يبرز الدعم الأمريكي غير المشروط للكيان الغاصب كعامل رئيسي يهدد النظام الدولي، فبدلًا من احترام القانون الدولي، تبدي واشنطن استعدادًا لاستغلال نفوذها السياسي لتعطيل أي خطوات قد تُضعف من موقف حلفائها، حتى وإن كان ذلك على حساب حقوق الشعوب التي تعاني من الاحتلال والقمع.
فاستقبال غالانت رغم الجدل القانوني يُرسل رسائل متعددة، فهو يؤكد، أولا، استمرار النهج الأمريكي التقليدي في توفير الغطاء السياسي للكيان الصهيوني، وهو ما يُفسَّر على أنه ضوء أخضر لارتكاب مزيد من الانتهاكات دون خشية المساءلة، وهو يضعف ثانيا الجهود الدولية الرامية إلى تحقيق العدالة، حيث يعزز الانطباع بأن القانون الدولي يُطبق فقط على الدول الضعيفة أو غير المحمية من القوى الكبرى.
و على المستوى الأوسع، يُهدد موقف واشنطن بتقويض ثقة المجتمع الدولي في آليات العدالة العالمية، فحينما تتحدى دولة كبرى مثل الولايات المتحدة مؤسسة دولية، تُصبح مصداقية هذه المؤسسة محل شك، ما قد يؤدي إلى تآكل النظام القائم على القوانين واستبداله بمنطق القوة والنفوذ السياسي.
ومن المؤكد أن الموقف الأمريكي يتجاوز تأثيره السياق الإسرائيلي-الفلسطيني، إذ حينما تُضعف المحكمة الجنائية الدولية، تتضرر قدرتها على التدخل في نزاعات أخرى حول العالم، و بالتالي فإن ضحايا الجرائم في أماكن الصراع في عالمنا قد يفقدون الأمل في تحقيق العدالة إذا استمر الضغط السياسي في تقويض دور المحكمة، وعلاوة على ذلك، فإن هذا الموقف يُشجع الدول الأخرى على انتهاك القانون الدولي دون خوف من العقاب، مما يؤدي إلى تصاعد النزاعات وزيادة معاناة المدنيين.
إن التحدي الأمريكي الواضح للجنائية الدولية يثير أسئلة جدية حول مستقبل العدالة الدولية، فهل يمكن للنظام الدولي أن يستمر في ظل هذه الازدواجية؟ وما هي الآليات البديلة التي يمكن تبنيها لتعزيز المساءلة وضمان احترام القانون الدولي؟
فبدلًا من أن تُستخدم المحكمة الجنائية الدولية كأداة لتعزيز العدالة والسلام، أصبحت محل تجاذب سياسي بين القوى الكبرى، مما يُهدد بتدمير أي تقدم أُحرز على صعيد تعزيز سيادة القانون.
ويمكن القول ختامًا، إن موقف واشنطن الأخير يشكّل بلا ريب انتكاسة خطيرة للعدالة الدولية،فإذا أرادت الولايات المتحدة أن تحتفظ بدورها دوليا وهو ما يبدو صعبا في ظل المتغيرات العالمية، فعليها أن تلتزم بالمبادئ التي تدعو إليها، لا أن تتحدى المؤسسات التي تسعى لتحقيقها، فاستمرار هذا النهج سيؤدي فقط إلى عالم أكثر فوضوية، حيث تسود المصالح على حساب القيم، وحيث تُصبح العدالة حلمًا بعيد المنال للضحايا في جميع أنحاء العالم.
هاشم بوعزيز
.
0 تعليق